الربيع العربي.. تحولات الوعي

03 أغسطس, 2015

مدخل تاريخي
في حراك التاريخ الأبدي استواءات أفقية في الحياة بكافة صنوفها اليومية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تمتد عشرات السنين فتنخدع ببرودة الحدث اليومي الكامن فوق بركان من ظلم وجهل وتخلف.. ولا يثور رغم عوامل الكشف عن مكنونه، ربما لأن القيود الضابطة مستقوية وجبارة وحاكمة بكل أدوات التسلط والقهر..
في التاريخ العربي والإنساني تجارب كثيرة ومريرة.. وفي العصر الحديث ما زالت الثورة العربية الكبرى المتمردة على اتفاقية سايكس بيكو وما تلا أحداث الحرب العالمية الأولى، ماثلةً في الأذهان.
 
ولكن الستعمر بمكره دجّنها واستطاع أن يفرغها من محتواها وأن يحكم سيطرته الكبرى على الأمة العربية بعد أن أعاد تقسيم المنطقة وفقاً لمصالحه وتطلعاته في استنزاف المنطقة. والمتأمل في الحالة العربية المصرية خصوصاً سيجد أن الشعب دائم الصبر ولكنه غير صامت تماماً.. إنه يستوعب ويتمادى في الصبر ولكنه في النهاية يفور ليقلب كل المعادلات والموازين ويفاجئ السلطة دوما في النهاية. اللافت أكثر أن هذا الشعب قد تناوب مع نخبه الدور مرة ينطلق بلا أطر قائدة ومرة يوكل ذلك لنخبه القادرة عسكرياً.
 
ولنتأمل دوره التاريخي في التصدى للحملة الفرنسية الشرسة والتي قام الشعب فيها في أعوام قليلة جداً بثورتين شعبيتين ضد المحتل الفرنسي «ثورة القاهرة الأولى، ثورة القاهرة الثانية» ناهيك عن انخراطه في المقاومة بطول الدلتا ضد هذا المستعمر الوافد الجديد.. وسنلحظ هذا التنافر الثقافي الذي رصده الجبرتي بين قيم الأمة العقدية والقيمية والاجتماعية.. وبين هذا الفرنسي القادم للاحتلال.
 
وسيؤكد لنا التاريخ أن هذا الشعب أوكل لطلائع جيشه الثورة ضد الخديوي ومن ثم التصدى للمستعمر الإنجليزي، حيث قاد عرابي مظاهرة مسلحة في ساحة عابدين معلناً مقولته الشهيرة: (لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً ولن تستبعد بعد اليوم..)، وفشلت المقاومة العسكرية بالدسائس والمؤامرة، وآلت مصر إلى محمية إنجليزية ليبدأ دور المثقف المصري في رفع راية العصبان والتمرد والمطالبة بالحرية، وكان على رأس هؤلاء مصطفى كامل ومن بعد محمد فريد.. وطالت المقاومة واستنهض الشعب باستمرار للتصدى للاحتلال.. ومع خفوتها المؤقت باشتعال الحرب العالمية الأولى وتداعياتها ما لبث أن انفجر الشارع المصري بثورته الشعبية 1919 مطالبة من أقصى جنوب مصر إلى أقصى شمالها بالحرية والعدالة ورحيل الاستعمار، وتمر سنوات وسنوات والمقاومة الشعبية تتحول إلى مد وجزر وتأتي الحرب العالمية الثانية وتداعياتها.. وتشكل دولة لليهود على التراب العربي في فلسطين أرض النبوات.. ويتصاعد المد والثوري الشعبي إلى أقصى مداه ولكنه هذه المرة يسلم القيادة إلى طلائع الجيش، الذي يتحرك في يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر محدثاً المفاجأة.. وتمكنت الثورة من بسط نفوزها بعد سنوات قليلة لتعيد لمصر وجهها العربي وتحاول أن تبني مجتمعاً جديداً مستهدفة الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة.. وتمكنت من تحرير الوطن من الاسعمار.. ولكن الآخر أدرك الخطر فحاك لها المؤامرات حتى كانت نكسة 1967.. والتي أزيلت آثارها بحرب 1973.. ولكن الانقلاب على مبادئ ثورة يوليو وعلى أفكار عبد الناصر في الوحدة والتحرر خلّف لنا في النهاية نظاماً مهترئاً قومياً.. ومتسامحاً مع العدو ومتساهلاً معه ضد مصلحة الوطن.. والمواطن والأمة العربية كلها، ولم يكتف بذلك بل تحوك إلى ديكتاتورية بوليسية تحكم بالحديد والنار وتسرق مقدرات الأمة مع التفريط في أمنها الوطني والاقتصادي لصالح العدو.
 
اللافت أن الحالة العربية في مجملها قد تشابهت في العقد الأخير حيث إن النظم الاستبدادية التي تحكم بالحديد والنار كانت موجودة في أطراف من الوطن، وإلى أن فاجأ الشعب جلاديه بالثورة الشعبية في 25 يناير 2010 في مصر «وهو عيد الشرطة الذي يعود إلى يوم وطني في العام 1952» حين قاومت الشرطة الباسلة في السويس الحامية الإنجليزية آنذاك. قامت جموع الشعب وبلا قائد أو زعيم للتظاهر والاعتصام وكانت التداعيات العظيمة والكبيرة التي أدت إلى سقوط نظام مبارك نظام من أكثر النظم التسلطية دهاء ونعومة..
 
هذه الثورة الشعبية التي تأثرت بثورة الشعب التونسي في ديسمبر 2009 كانت شرارة الفعل الثوري في بلدان أخرى تتشابه فيها الحالة.. اليمن.. ليبيا.. سوريا.. حتى شكلت حالة عامة من الثورة الشعبية العربية لا مثيل لها في التاريخ العربي المعاصر على مستوى الفعل والهدف.
 
 
المثقف العربي.. الدرس والتأمل
* نخلص إلى
ـ أن الشعب المصري قد تناوب الفعل الثوري مع خلصائه ومثقفيه وطلائعه على مرّ التاريخ.
 
ـ أن المثقف كان له الدور الكبير والفاعل في التاريخ والذي يزخر بأسماء عظمى من أمثال محمد كريم، مصطفى كامل، محمد فريد سعد زغلول.. إلخ،، كان لهم الدور الفاعل والساحر في التفاعل الحي مع الجماهير.
 
ـ وفي الفترة المعاصرة جداً خبا دور المثقف والمفترض أنه حيوى وفاعل وكاشف ودافع ورافع، ولكن إذا ما أمعنا النظر في الثلاثة عقود الأخيرة لن نجد مثقفاً مصرياً كان داخل أقبية السلطة رغم أن هذه السجون كانت مليئة بالآلاف ومنهم مساجين رأي ولكنهم كانوا من أصحاب الميول الدينية المتعاكسة مع النظام لأغراضها الأيدولوجية.. وكان فيهم الطلبة، ولكن ما قصدته بالمثقف هنا.. هو هذا الرجل الوطني صاحب القلم وصاحب القضية.
 
ـ وعند البحث سنجد أن هذا الدور المنوط بالمثقف قد انتهى.. أي دور التنوير والتثوير وإعلام الناس بحقائق الأوضاع المتردية في الوطن.. ولقد ساهم المثقف نفسه في خدمة وتمرير أهداف النظام نظام مبارك المخلوع.. إما بصمته.. وإما بعجزه وإما بانحيازه.. كما أن النظام نفسه ساهم مع هذا المثقف لإفساد وعي الناس لصالح أطماعة وسيطرته، وقام النظام بشراء هذا المثقف المتعاون وتدجينه فقام بتعيين العشرات منهم في مواقع وظيفية في الإعلام المرئي والمقروء وكذلك في وزارة الثقافة ومؤسساتها، وكنا نرى أصحاب رؤى سابقاً وأصحاب أيديولوجيات متعاكسة مع النظام، تعمل في خدمته من خلال مواقعها الوظيفية، والأمثلة كثيرة وماثلة ومعروفة.
 
ـ حين اندلعت الثورة بطلائعها الشعبية المحضة، كشفت عن عوار هذا المثقف.. وأيضاً عن عجز كل النخب المعروفة في المجتمع عن الفعل وعن إدارة حيوات هذه الثورة الشعبية العظيمة، التي أثبتت أن الجماهير بحسها الوطني والعفوي سابقة لتنظيرات هذه النخب ولحركتها وفعلها.. ومن الغريب أن هناك العشرات من المعروفين سابقاً امتطوا جواد الثورة.. ولكن من الأسف برز أيضاً عجزهم وتخلفهم عن الجماهير حيث سنرى أن منهم أصحاب أجندات خاصة أو خادمين لتوجهات نعينها.
 
ولقد أثبتت هذه الثورة كذلك تفوق الإعلامي في تأثيره الإيجابي أو السلبي أحياناً على المثقف الذي اندهش من الفعل الثوري ولم يتمكن حتى اللحظة من مجاراتها والاندفاع معها وتوجيهها نحو الهدف الصحيح الخادم للوطن ولهذه الجموع التي قامت بها.
 
ـ أثبتت هذه الثورة عجز المثقف والنخبة عن التأثير في مجريات الأحداث المضادة للثورة والوطن.. وتحويل هذه الأعمال التخريبية والعبثية إلى وجهتها الصحيحة لخدمة الوطن والثورة وأهداف الشعب المتمثلة في التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية.
 
ـ يشارك الآن بعض المثقفين في تضليل الوعي وإثارة الفتنة وإشاعة البلبلة في الشارع بما لا يخدم سوى أصحاب أجندات خارجية يتربصون بالوطن ويمررون ثقافة الخوف بما يساهم في إفشال المشروع الثوري الذي لم يكتمل بعد.
 
ـ لقد كشف الربيع العربي عن تحولات الوعي السياسي لدى الإنسان البسيط وأكد على أن مقدرات الشعب لا تأتي إلا من خلال حركة الشعب الطاهرة.. صحيح أن هناك إرهاصات للثورة تفجرها نفس أجهزة التسلط والقمع بجبروتها وسلطاتها وأن المناوئين للسلطة هم أداة للتنوير والتثقيف، ولكن تظل الفجوة كبيرة دوماً بين حركة الشعب ورؤية المثقف أو المفكر.. ولقد ساهمت ثورة الشعب العربي في تعرية هذا الواقع الثقافي المترهل الذي انكمش على ذاته إلى حد ابتلاع دوره أو إسكاته لصالح سلطة لا تدرك أن السعب دائماً حيّ ويستطيع أن يتحرك إذا أراد لينتزع لنفسه حريته وهيبته وحيويته.
 
 
خلاصة:
لقد كشفت ثورة الربيع العربي عن قوة الإنسان العادي في مواجهة حساب السلطة.. أو شروط اللعبة السياسية وكذلك عن عجز المثقف وسلطة الثقافة باعتبارها شرطاً للوعي وللتقدم والرقي.. حيث تقريباً غابت حركة التنوير أو التثوير للمفكر والمثقف الذي ارتضى الركون والدعة تحت أشرعة السلطة القامعة أو أنه كان مدجّناً لصالحها.. واللافت أن هذا الغائب الذي سبقته خطوة الشارع غير المدركة منه ولا من السلطة سواء في حجمها أو في أهدافها فأصبح المثقف في مهب الحراك إما أن يصمت عن الفعل فيكون ضد ثورة الجموع التي تحرك مع موج الثورة وبالتالي فإنه ركبها لا مختاراً.. ولكن بحكم اندفاعها.. وأصبح موقفه أكثر غموضاً وأكثر التباساً إذ إن خطاب المثقف قد ارتبك كثيراً فلا هو قادر على الفعل الإيجابي لصالح الثورة أو لإنتاج خطاب جديد مؤيد للمستقبل دون أن يستطيع مداراة عزلته السابقة، وفي كل الحالات فلقد تعرّى هذا المثقف الذي كان متحولاً عن أهداف أمته أو ساكتا وصامتاً عن الفعل.
 
وأجدني في هذا السياق متناقضاً في الرؤية مع بعض المقولات التي ما زالت تفترض أن للمثقف دوراً في الآتي لأن حركة الشعب والعامة والناس كانت أصدق وأحرص وأهم وبالرغم من أن الثقافة العربية فيها من الطاقات ما يكفى لقراءة وتحليل الأحداث والتبشير بتداعياتها إلا أن المثقف لم يتموضع بعد في مقدمة الربيع العربي وأنه قادر على رفع الحرية كقيمة لأن الواقع أثبت أن السياسي القابع قد أدرك الموجة وقادها نحو أهدافه هو وحركة المد الثوري بما يتفق ومصالحه البراجماتية والسطو على السلطة مثلما حدث في مصر وحتى من خلال صناديق الاقتراع. وإذا ما أمعنا النظر في الحالة الليبية سنجد أن هناك تياراً سياسياً بعينه جرف أهداف التغيير لصالحة وكذلك في الحالة التونسية مع الفوارق الخاصة لكل حالة.
 
لقد جذّرت حالة الربيع العربي أزمة الوعي الحركي عند المثقف العربي، بمعنى أن كل تنظيراته في تحليل الأزمة.. أزمة الإنسان العربي في ظل تسلط أجهزة القمع الحاكمة التي خلقت حالة عامة من القهر والفقر وعدم العدالة الاجتماعية وافتقاد حرية المواطن، كانت باهتة. بالإضافة إلى أنه بعد تفجر حالة الغضب وتمكن الجماهير من إحداث حالة التغيير المهمة والكبيرة في مسيرة الوطن أصبح المثقف نفسه أداة لتعويق الانطلاق ليأخذ التغيير مداه حيث ساهم في إثارة الفتنة والبلبلة لصالح عدم استكمال الثورة أهدافها والانعتاق من كل قيود النظام السابق في مصر.